الزورق الأبيض

   في هذه الترعة1 الصغيرة وعلى جانبيها، تسكن الحيوانات الجميلة وتنبت النباتات النضرة، فالزهور الحمراء الصغيرة منتصبة على الشاطئ ضاحكة بهيجة ترقص مع النسيم رقصًا جميلًا، والحشائش الخضراء على جانبي الترعة، قد تلألأ الندى فوقها، فصارت كأردية الملائكة تخطف النظر، وطفت على وجه الماء أوراق النباتات العائمة، وزهورها الصفراء كزهرات اللوتس، بنت المناطق الحارّة وبلاد الأقزام والأسماك الصغيرة الدقيقة كإبر، قد برزت عيونها كبيرة لامعة، تعوم في الترعة جيئةً وذهابًا، وقد فتحت الضفادع عيونها كأنّها ترقب الناس أو كأنّها تنتظر صديقاتها.

   علت أصوات صغيرة ضئيلة على وجه الماء، كانت أصوات تكسر الفقاقيع التي خرجت من أفواه الأسماك الصغيرة "بق... بق..." فكانت هذه الأصوات من صغار السمك جميلة رائعة.

   ونادت الأسماك الزهور الحمراء الصغيرة لترقص معها، ومالت الحشائش الخضراء لتعرض أرديتها الجميلة، وضحكت زهرات اللوتس بنت بلاد الأقزام وتحرّكت حركة خفيفة، فتحيّرت الضفادع أمام هذا الرقص الجميل فغنّت أناشيدها من غير دعوة.

   وزاد هذا الرقص الجميل وذاك الغناء الرائع منظر الترعة روعة وجمالًا.

   وكان يرسو على جانب الترعة الأيمن زورق أبيض جميل، لم يشذّ جزء منه في اللّون، حتّى السكّان والمجاذيف والشراع كانت كلّها بيضاء وكان ضيّقًا طويلًا كالمغزل، لم يعدّ لركوب شخص سمين، لأنّه إذا ركبه مال إلى جانبه فوقع في الماء، وكان لا يصحّ أن يركبه شيخ كبير، فلو اتّفق أن ركبه كان جلده الأدكن بتجعّداته التي تشبه الشبكة، بقعة سوداء فاضحة القبح وسط لون الزورق الجميل، بل لو اتّفق أن ركبه الشيخ الكبير لمات خجلًا من قبحه وسط الزورق. وبالجملة فقد أعدّ ذلك الزورق لركوب ذوي الحسن والظرف من الصبية.

   وسعى صبيّان إلى شاطئ الترعة، أحدهما صبيّ ذو خدّ أحمر برّاق كخدّ التفّاح، كان يلبس ثيابًا بيضاء، وأمّا الآخر فصبيّة ارتدت ثيابًا زرقاء نيليّة ذات محيّا متورّد جميل يأخذ بمشاعر القلوب.

   وسار الصبيّ والصبيّة وقد تأبّط كلّ منهما يد الآخر، ومرّا في طريقهما بغابة صغيرة، ثمّ قصدا إلى شاطئ الترعة، وركبا الزورق الأبيض، فاضطرب قليلًا، شمالًا ويمينًا كأنّه يهتزّ طربًا لمقدم الصبيّين الجميلين.

   وشقّ الصبيّ الصمت قائلًا:

- "لنسترح هنا قليلًا".

- "نعم، ولنلعب مع الأسماك الصغيرة"، وأجابته الصبية بهذه الكلمات وهي تتّكىء على جانب الزورق.

   واستمرّت الأسماك الصغيرة في الطرب والضفادع لا زالت تغنّي، وقطف الصبيّ زهرةً من زهور النبات العائم فوضعها في ضفيرة من ضفائر الصبيّة ونظر إليها قائلًا: "أنت كالعروس تمامًا".

وكأنّ الصبيّة لم تسمع كلامه، جذبت رداءه قائلة: "ولنغنّ معًا أناشيد السمك، هيّا بنا... ".

فانطلق صوتها يرتّل:

   "تعالَ أيّها السمك، تعالَ أيّها السمك، لا تخف، فليست عندنا شباك، ولا تهرب، فليس عندنا شصّ2، لنغنّ لك الأناشيد الرائعة، ونلعب معك.

   تعالَ أيّها السمك، تعالَ أيّها السمك، لا تخف، فليست عندنا شباك، ولا تهرب، فليست عندنا شصّ، لنقطف لك الزهور الجميلة، ونلعب معك.  

   تعالَ أيّها السمك، تعالَ أيّها السمك، لا تخف، فليست عندنا شباك، ولا تهرب، فليست عندنا شصّ، فعندنا كلّ الأفراح ، ولنلعب معك".

   ولم يتمّ الصبيّان أناشيدهما حتّى هبّت الرياح الشديدة، فرقصت الزهور والحشائش بسرعة، وتغضَّن3 وجه الترعة الأملس، فنشر الصبيّ الشراع يستعدّ للنزهة مع الريح، ووضعت الصبيّة السكّان4 في الماء وأمسكته بيدها كأنّها نوتيّ ماهر، فرجعت الترعة إلى الوراء مسرعة واندفع الزورق كالسمكة الطائرة جاريًا على وجه الماء.

   واشتدّت الرياح فلم يستطع الصبيّان أن يريا ما على جانبي الترعة بدقّة، بل كانا يريانه كأشباح سوداء تجري أمامهما إلى خلف الزورق سريعة، وقد طغى صوت احتكاك الماء بقعر الزورق على الأصوات الأخرى، وملأت الريح الشراع الأبيض فصار كبطن الرجل السمين، فتحيّر الصبيّ والصبيّة وقالا معًا: "إذا استمرت هذه الريح الشديدة فلا يمكن للزورق أن يقف"، وجرى الزورق على وجه الترعة زمنًا طويلًا حتّى ضلّ الصبيّان وعجزا عن تحديد مكانهما، فحاولا إيقاف الزورق ولكنّهما لم يستطيعا ذلك، وهو يجري بكلّ قوّة الريح.

   فبكت الصبيّة وتذكّرت أمّها في البيت وسريرها الوثير وقطّتها الصفراء، وظنّت أنّها قد لا تراهنّ بعد ذلك، وهي لا تطيق فراقهنّ إلى الأبد، مهما جاورها حبيبها وصديقها.

   فنظّم الصبيّ بيده شعر رأسها الذي بعثرته الريح حول وجهها وتلقّى دموعها بكفّه وقال لها:

- "لا تبكي يا أختي الحبيبة، فإنّ كلّ دمعة من دمعك كقطرة المنّ تنزل من السماء، فإذا أضعتها خسرت خسارة كبيرة، وإنّ الريح لا بدّ ستحدّ من غلوائها بعد حين، فهي كأمواج البحر تارة تثور وتارة تهدأ".

   واستمرّت الصبيّة تبكي بلا انقطاع وهي معتمدة على كتف الصبيّ كأنّها إلهة الحزن.

   وحاول الصبيّ أن يوقف الزورق، فأمر الصبيّة بأن تعتمد على جانبه، وقام وأخذ عقدة حبل الشراع بيده اليسرى وأمسك بيده اليمنى بالمجذاف، ثمّ شدّ العقدة ودفع الزورق بالمجذاف إلى الشاطئ، فنزل الشراع شيئًا فشيئًا ووقف الزورق، فظهر أمامها واد كبير واسع ليس فيه ديار ولا نافخ نار.

   وصعدا إلى الشاطئ والريح لا تزال تضرب بسياطها الأشجار حتّى أصبحت أكبرها في تعب شديد، وأخذت الصبيّة تجفّف دموعها، ثمّ رأت خلوّ الوادي من الناس والبيوت فبكت مرّة ثانية، وواساها قائلًا: "إذا انعدمت البيوت من هنا فإنّ عندنا زورقنا الأبيض يكفينا، وإذا كان وجود الناس معدومًا فلنلعب فرحين مرحين بلا رقيب، أريد أن نعيش في الزورق طول عمرنا ونتمتّع بمنظره الجميل، وأحبّ أن تكوني معي في ذلك، فلنذهب إلى الوادي ونلعب فيه، هيا بنا".

   وتبعت الصبيّة الصبيّ ذاهبين إلى الوادي، وهبّت الريح باردة على جسميهما، فجعلتهما يقتربان ويحيط كلّ منهما يده بخصر صاحبه، ومشيا مئات الخطوات فوجدا شجرة الكاكا ذات ثمر ككرات العقيق يتدلّى من فروعها، وقد نضج بعضه وسقط على الأرض، فالتقطت الصبيّة واحدة فأكلتها، فإذا هي لذيذة حلوة، فطلبت من الصبيّ أن يأكل معها، فافترشا الأرض يأكلان الكاكا، وقد نسيا كلّ شيء في قلبيهما.

   وفجأة جاءت أرنب تسعى من غابة صغيرة تبعد عنهما قليلًا، ووقفت أمامهما وجثمت على بطنها لا تتحرّك، فمسحت الصبيّة شعرها الناعم بيدها وأخذتها إلى حجرها، فضحك الصبيّ وقال:

- "الآن وجدنا صديقًا يؤنسنا"، ونزع قشرة ثمرة من ثمر الكاكا وأطعمها إيّاها، فقرّبت الأرنب فمها من الثمرة وأكلتها بنهم.

   وجاء من بعيد رجل طويل القامة، قبيح الوجه، مخيف القسمات، وقصد إليهما، فلمّا رأى الأرنب بجوارهما غضب واتّهمهما بسرقة أرنبه، فأجابه الصبي قائلًا:

- "إنّها جاءتنا بنفسها، وقد أحببناها لأنّنا نحبّ كلّ الأشياء الجميلة".

فقال الرجل:

- "إذا كان الأمر كذلك فإنّي لا أعاتبكما، وأرجو منكما أن تردّاها إليّ".

   ولكن الصبيّة لم ترد أن تفارق الأرنب، فأمسكتها بين يديها بشدّة وقرّبت خدّها من شعرها الأبيض وأرادت أن تبكي، غير أنّ الرجل لم يشفق عليها، واختطف الأرنب من يدها بقوّة.

   وهدأت الريح شيئًا فشيئًا، فقال الصبيّ في نفسه: " لقد ضللنا الطريق، ولا نعرف كم يبعد هذا الوادي عن بلدنا، ومن أيّ ترعة من هذه الترع الكثيرة نرجع إلى البلد، فلأسألنّ هذا الرجل فربّما عرف".

   وسأل الرجل فقال له:

 - "إنّ المسافة بين هذا الوادي وبين بلدكما عشرون ميلًا، وأظنّ أنّكما لا تعرفان الرجوع إليه، لأنّ شواطئ الترع منحنية لا يستطيع إنسان غريب أن يعرفها بدقّة، ولكنّي أستطيع أن أوصلكما إلى بلدكما".

   فسرّ الصبيّان غاية السرور وقالا في نفسيهما: "إنّ شكل هذا الرجل قبيح، مخيف، ولكنّه رحيم القلب طيّب الضمير"، وتوسّلت الصبيّة إليه قائلة:

- "إذًا فلنسرع إلى الزورق الأبيض، لأنّ أُمّنا وقطّتنا الصغيرة تنتظراننا في البيت".

   فقال الرجل:

- "كلّا، إذا أوصلناكما إلى البلد بدون مكافأة، فإنّي أخسر خسارة كبيرة".

  فقال الصبي:

- "أهدي إليك صورة جميلة، وفتح يديه بمثل حجم الصورة".

  وقالت الصبيّة:

- "أهدي إليك حزمة من الأقحوان الفارسيّ الجميل مختلفة الألوان".

   ومدّت يدها كأنّها تقدّم الزهور، فحرّك الرجل رأسه شمالًا ويمينًا وقال:

- "لا أريد شيئًا من ذلك، ولكن عندي ثلاثة أسئلة، فإذا استطعتما أن تجيباني عنها فإنّي أوصلكما إلى بلدكما، وإلّا فإنّي أترككما وآخذ أرنبي وأرجع إلى بيتي. فهل تستطيعان أن تجيباني عنها"؟

فقال الصبي صائحًا:

- "نعم نستطيع".

فقال الرجل:

- "أمّا السؤال الأوّل فلماذا تغنّي الطيور"؟

فأجابته الصبيّة في الحال:

 - "تغنّي ليسمع الذين يحبّونها".

فقال الرجل:

 - "أصَبتِ، وأمّا السؤال الثاني فلماذا رائحة الزهور طيّبة"؟

فأجابه الصبي بدون انتظار:

- "إنّ الطيب خير، وإنّ الزهور علامات الخير".

فقال الرجل:

 - "نِعْمَ الجواب!

 وأمّا السؤال الثالث: فلماذا يصلح الزورق الأبيض لركوبكما "؟

فرفعت الصبيّة يدها قائلة:

-"لأنّ قلوبنا طاهرة خالية من الخبث كالزورق الأبيض، نظيف خال من الألوان".

فقال الرجل:

 - "الآن أوصلكما إلى بلدكما".

    ففرح الصبي والصبيّة فرحًا شديدًا وتعانقا وقبّل أحدهما الآخر، وسارا مع الرجل إلى الزورق وركبوه، وأمسكت الصبيّة بالسكّان وجذّف الصبيّ والرجل بالمجاذيف، فجرى الزورق سريعًا، ونظرت الصبيّة إلى شاطئ الترعة، فهالها جمال الأشجار الحمراء والأكواخ الصغيرة، وراعها انبساط الأرض، وشبّه لها المنظر كمشاهد الجنّة فزاد فرحها، وكانت الأرنب جاثمة بين قدميها، فقطفت زهرة من زهور النبات العائم وقدّمتها لها تداعبها بها.

   وقال الصبي:

 - "لولا الريح الشديدة لما نعمنا الآن بهذا الفرح".

فقالت الصبيّة:

 - "لو لم نتمكّن من الإجابة على أسئلة هذا السيّد فهل كنّا نتوقّع أن نفرح الآن"؟

   ونظر إليهما الرجل ولم يتكلّم واستمرّ بدفع مجذافه مبتسمًا، ولمّا وصل الزورق الأبيض إلى الترعة التي كان يرسو فيها، توقّفت الزهور الحمراء عن الرقص، وسكنت الحشائش الخضراء، ونامت الأسماك الصغيرة تحت أوراق النبات العائم، وأمّا الضفادع فما زالت تغنّي هناك.

                              مجلّة الثقافة عدد: 328

                              ترجمة عبدالله ما جي كو

                             للكاتب الصينيّ ياه شاو كين  

 

1- الترعة: الروضة في مكان مرتفع، فم الجدول، القناة الواسعة للسقي والملاحة.

- شصّ: حديدة معقودة يصطاد بها السمك.2

- تغضّن: تكشّر وتجعّد.3

- السكّان: ما تسكّن به السفينة وتمنع من الحركة والاضطراب وتعدّل 4

في سيرها.